مجزرة دير عشاش

القسيس بعد مجزرة دير عشاش:

رهبانيتنا شاهدة وشهيدة للبنان*

بعد ظهر الأحد 14 أيلول 1975 عقد الأباتي شربل القسيس الرئيس العام للرّهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة مؤتمراً صحافيًّا في دير مار أنطونيوس بيروت تحدّث فيه عن ملابسات قتل الرّهبان الثلاثة في دير مار جرجس عشاش، وقد تلا الأباتي القسيس أوّلاً البيان الآتي:

بعد ظهر الأحد 14 أيلول 1975 عقد الأباتي شربل القسيس الرئيس العام للرّهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة مؤتمراً صحافيًّا في دير مار أنطونيوس بيروت تحدّث فيه عن ملابسات قتل الرّهبان الثلاثة في دير مار جرجس عشاش، وقد تلا الأباتي القسيس أوّلاً البيان الآتي:

«لماذا نعطي هذا الحادث المؤلم أهميّة ونخصّه بمؤتمر صحافي، وهو واحد من سلسلة حوادث مؤلمة توالت على لبنان في الأشهر الأخيرة؟

أوّلاً: لنعلن أنّنا مضطرون إلى إقفال مدرسة دير مار جرجس عشاش في السنة المُقبلة، ليس بدافع عجز مالي أو تخريبي وقع فعلاً، وفي إمكاننا استدراكه، بل لاعتقادنا الوثيق بأن من لم يتورّع عن ذبح الشيوخ لن يرحم الأطفال.

ثانياً: لنؤكّد على مطلب حماية المؤسّسات الدينيّة والتربويّة من قبل السلطة بكلّ ما تملك من وسائل. وليس مطلبنا مسيحيًّا بمقدار ما هو لبنانيّ، يكفل للجميع حقّ العيش في منأى عن الرعب والترويع الذي زرعه المتآمرون في منطقة آمنة متعايشة، وفي ظلّ أديان سماويّة متآخية لم تعرف التنابذ إلاّ إذا أرادوا لها نبذ تعاليمها الروحيّة.

ثالثاً: لنُظهِر وجه الجريمة البشعة بالنسبة إلى رهبان شيوخ أجلاّء قضوا حياتهم في خدمة الله والإنسانيّة.

دفعوا جزية إيمانهم بالمواثيق

لقد حرص الرّهبان الشهداء بدافع التجرّد وروح الرسالة التي يحملون، على ألاّ يكون المعهد الذي هو موقع استراتيجي، مركز أعمال عسكريّة لمصلحة الفريق المسيحيّ، وقد قبِل هذا الفريق وتنازل عن مطلبه وهو التمركز في الدّير حرصاً منه على حرمة هذا المركز الدينيّ التربوي خصوصاً متى علمنا أنّ مواثيق الشرف ترعى حرمتها، لأنّ أهالي مرياطه أيضاً طلبوا تحييد هذا المركز وتعهّدوا بالحفاظ على حرمته ومنع الآخرين من خرقها. وبناءً على ذلك لزم الرّهبان الشهداء الدير، إيماناً وثقة منهم بالمواثيق، وحبًّا وتعلّقاً بالمركز الذي نشّضأوا فيه أولاد المنطقة. ولكن، ويا للأسف، لقد دفعوا جزية ذلك دماءهم الزكيّة، فذُبِح الثلاثة.

واحد منهم ضرير، طاعن في السنّ (93 عاماً) وهو الأب الشهيد بطرس ساسين وقد قُطِعت عروق يديه وهو طريح فراشه.

والثاني عاجز أحبّ أن يعيش في المعهد الذي ساهم في إنمائه وتطويره، وهو الأب الشهيد أنطونيوس تمينه (78 عاماً)، وقد ذُبِح من الوريد إلى الوريد، وتمويهاً للحقيقة وُضِعَت قطعة سلاح قرب جثّته، ومَن لا يعلم أنّ المُقاتل عندما يسقط أوّل ما يغنم منه سلاحه.

والثالث، العامل الصامت الأخ الشهيد يوحنّا مقصود (60 عاماً) الذي كان يتهيّأ لعمليّة جراحيّة، ذُبِح في غرفته.

فللرّهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، كما للرّهبانيّات اللبنانيّة الأخرى، تاريخها الحافل بالعطاء ولن تمنعها هذه المجزرة من متابعة عطائها في سخاء، وقد خصّها الله من جديد بهذه الشهادة.

وَعَت الرّهبانيّة مسؤوليّاتها تجاه هذا الوطن وفي الأخصّ تجاه كلّ منطقة حُرِمَت نور العلم والمعرفة، فحوّلَت دير مار جرجس عشاش، الذي تأسّس عام 1847، مدرسة بعد الحرب العالميّة الثانية، تضمّ في جنباتها بعض أبناء المنطقة بدءاً بسير الضنيّه حتّى مشارف طرابلس، ونحن نفاخر بمَن خرّج هذا المعهد وجميعهم في الخدمة والمسؤوليّة.

فقد ضمّ هذا المعهد في السنة الدراسيّة المُنصرمة 960 طالباً من أبناء المنطقة بين داخلي وخارجي، معظمهم من المسلمين، وعلى وجه التحديد 300 منهم من الطوائف المسيحيّة، وليسوا من الموارنة فقط، والآخرون وعددهم 660 طالباً من المسلمين، وذلك بأقساط رمزيّة شبه مجّانيّة.

«حُسِبنا كالغنم للذبح»

السؤال المطروح الآن: مَن كان المستفيد ممّا حصل؟ مَن الفاعِل؟ ولماذا؟

لا شكّ في أنّ الخسارة لا تقع على عاتق الرّهبانيّة المارونيّة، فهي قد تعوّدَت أن تكون شاهدة وشهيدة للبنان، وشعارها كشعار كلّ الرّهبان والراهبات: «مِن أجلك نموت كلّ يوم وقد حُسِبنا كالغنم للذبح». ونحمد الله أبداً على أنّه خصّنا بنعمة الشهادة.

إذاً المُستفيد الأوحد: عدوّ لبنان. والخاسِر الأوحد: أبناؤه، وعلى وجه الخصوص أبناء منطقة طرابلس والضنيّه الذين سيُحرَمون خدمة هذا المعهد.

أمّا مَن هو الفاعِل: فلقد فاجأتنا مبادرة الأحزاب والقوى التقدميّة، صباح اليوم، في بيانها الذي استنكرت فيه مذبحة دير عشاش وسواها من أعمال العنف، إنّه كلامٌ مقبول. ولكن ألَم يكن من الأفضل أن نستدرِك عمليّة الاقتتال والتقتيل بمبادرة قبول تدخّل الجيش إلى جانب قوى الأمن، خصوصاً أنّ الأحزاب التقدميّة تعلم حقّ العلم أن قوى الأمن الداخلي غير قادرة على وقف أعمال العنف؟ فالتجربة مرّت بها حكومة السيّد رشيد الصلح، وخبرت القوى التقدميّة قدرة الأمن الداخلي من خلال وزير داخليّتها، رئيس الوزارة السابق، آنذاك. وعلى رغم ذلك طالبت وتطالب بعدم إنزال الجيش، كما دعت إلى إضراب احتجاج غداً الاثنين.

ليس المهمّ أن نستنكر، بل المهمّ أن نستدرِك، وفي ما أعتقد أنّ كلّ مُخلِص للبنان، مهما تكن انتماءاته العقائديّة واعتقاداته لا يتردّد في قبول استعمال كلّ الوسائل التي تكفل منع إراقة الدماء البريئة وفي النتيجة خسارة الوطن.

إنّ ما يجري في لبنان بات واضحاً، إنّه يستهدف الكيان اللبنانيّ بكلّ فئاته المسيحيّة والمحمديّة، واليمينيّة والاشتراكيّة. إنّها خطّة مدبّرة لتعطيل ميزة لبنان الفريدة: التعايش والتماسك بين أبناء الطوائف السماويّة ولحرق اقتصاده وإكثار المحرومين فيه، وللقضاء على القيم الحضاريّة والروحيّة التي يمثّل، وقد استشهد في سبيلها المسلم والمسيحيّ.

الإسلام بَراء منه

مَن المسؤول عن مجزرة دير عشاش؟

القوى التقدميّة  والوطنيّة استنكرت ذلك، وإخواننا المسلمون في مرياطه تعهّدوا بحفظ حرمة الدير، ديرهم ومدرستهم، هل الحق إذاً على «الطليان»؟

الواقع أنّ هذه الأعمال البشعة وافدة علينا وهناك من يتعاطف معها من الداخل. فاللبنانيّ في أصالته يبعد كلّ البعد عن هذه الهمجيّة التي لم يسبق أن عرف لبنان لها مثيلاً. والدليل القاطع على ذلك هو تلك الهويّات غير اللبنانيّة التي صودِرَت ممَّن قتلوا وهم يُمعِنون في التخريب والتنكيل في الأبرياء في كلّ المناطق اللبنانيّة.

ختاماً: مهما عملنا لتجنّب النعرات الطائفيّة في تشخيص أسباب المجازِر ومسبّباتها، فإنّ مظهرها وواقعها يبقى طائفياًّ، وتبقى الوصمة في وجهنا كلبنانيّين عندما تتعرّض المؤسّسات المسيحيّة والدينيّة ورجال الإكليروس والرّهبان لأعمال انتقاميّة، خصوصاً في المناطق التي يُعتَبَر فيها المسيحيّون أقلّيّة، كما حدث في القاع وفي بيت ملاّت، في حين أنّ المؤسّسات الدينيّة ورجال الدين المحمّديّين في مناطق الأكثريّة المسيحيّة لم تتعرّض لمثل هذه الأعمال، وعليه فإنّي أناشِد إخواننا المسلمين المخلصين، المؤمنين بإسلامهم، في هذا الشهر الفضيل، بعدما ناشدهم غبطة أبينا البطريرك الماروني منذ يومين، أن يطردوا مِن بينهم أولئك الذين يُعيلون فساداً في الوطن وينتهكون المقدّسات ويفتعلون الفتنة تلو الفتنة، كلّ ذلك والإسلام براء منه.

فهل نحن مضطرّون، إسلاماً ومسيحيّين، كي نعيش في لبنان، إلى أن نكفر بالله وبالقيم الوطنيّة والإنسانيّة؟ خسِئوا!»

وقال الأباتي القسيس في ردّه على الأسئلة: «نحن ضدّ تقسيم لبنان، وسنقاتل من أجل بقاء صيغة التعايش الحاليّة».

وعن حوادث بيت ملاّت قال: «أنا أفهم أن تُدان حوادث فرديّة كحادثتَي عين الرمّانه وداريا، إنّما لا يمكن أن أفهم أو أبرِّر هجوم منطقة على بلدة كالقاع أو بيت ملاّت».

* مؤتمر صحافي للأباتي شربل القسيس

(جريدة النهار، الاثنين 15-9-1975)